فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدِ اسْتُفْتِيَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِمَا نَنْقُلُهُ هُنَا بِنَصِّهِ مِنْ (ص 666) مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ وَهُوَ: فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي طُوفَانِ نُوحٍ:
جَوَابُ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ الْقُدُومِيِّ خَادِمِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ بِمَدِينَةِ نَابِلْسَ، وَفِيهِ نَصُّ السُّؤَالِ: وَصَلَنَا مَكْتُوبُكُمُ الْمُؤَرَّخُ فِي 4 شَوَّالٍ سَنَةَ 1317هـ الَّذِي أَنْهَيْتُمْ بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ قِبَلَكُمْ نَشْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الطَّلَبَةِ دَيْدَنُهُمُ الْبَحْثُ فِي الْعُلُومِ وَالرِّيَاضَةِ، وَالْخَوْضُ فِي تَوْهِينِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ الْآنَ: أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِأَنْحَاءِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا قَوْمُ نُوحٍ عليه السلام، وَأَنَّهُ بَقِيَ نَاسٌ فِي أَرْضِ الصِّينِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْغَرَقُ، وَأَنَّ دُعَاءَ نُوحٍ عليه السلام بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِكُفَّارِ قَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، بِدَلِيلِ مَا صَحَّ «وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً».
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ نَاطِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عليه السلام: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (71: 26) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (37: 77) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (11: 43) قَالُوا: هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَجَابُوا بِأَنَّهُ صَحَّ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ نُوحًا عليه السلام أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ، وَيَكُونَ عُمُومُ بِعْثَتِهِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا لِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ غَيْرَ قَوْمِهِ، وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ- سَخِرُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَاسْتَنَدُوا إِلَى حِكَايَاتٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى أَهْلِ الصِّينِ، وَرَغِبْتُمْ مِنَّا بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ كَشْفَ الْغِطَاءِ عَنْ سِرِّ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ، وَالْإِفَادَةَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ: أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى عُمُومِ الطُّوفَانِ، وَلَا عَلَى عُمُومِ رِسَالَةِ نُوحٍ عليه السلام، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ- عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ سَنَدِهِ- فَهُوَ آحَادٌ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَالْمَطْلُوبُ فِي تَقْرِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ هُوَ الْيَقِينُ لَا الظَّنُّ، إِذْ عُدَّ اعْتِقَادُهَا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينَ.
وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُ وَمُرِيدُ الِاطِّلَاعِ فَلَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِنَ الظَّنِّ مَا تُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ ثِقَتُهُ بِالرَّاوِي أَوِ الْمُؤَرِّخِ أَوْ صَاحِبِ الرَّأْيِ، وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ حَدِّ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا، وَلَا تُتَّخَذُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى مُعْتَقَدٍ دِينِيٍّ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ فِي نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعُ نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَأَهْلِ النَّظَرِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَمَوْضُوعُ خِلَافٍ بَيْنِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَعَلَى أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ الْأَرْضِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِوُجُودِ بَعْضِ الْأَصْدَافِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ.
فَظُهُورُهَا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ صَعِدَ إِلَيْهَا مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ، وَيَزْعُمُ غَالِبُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، وَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ يَطُولُ شَرْحُهَا- غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَ قَضِيَّةَ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِالدِّينِ أَلَّا يَنْفِيَ شَيْئًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّ سَنَدُهَا وَيَنْصَرِفُ عَنْهَا إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَقْطَعُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ الْمُرَادِ، وَالْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ طَوِيلٍ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ، وَعِلْمٍ غَزِيرٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عُلُومٍ شَتَّى عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ، وَمَنْ هَذَى بِرَأْيِهِ بِدُونِ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ فَهُوَ مُجَازِفٌ لَا يُسْمَعُ لَهُ قَوْلٌ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُ بِبَثِّ جَهَالَاتِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ.
(أَقُولُ): خُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا شَامِلًا لِقَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأَرْضِ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَثِّلُونَ الْأَرْضَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْأَصْدَافِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ فِي قُلَلِ الْجِبَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الطُّوفَانِ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَكَوُّنِ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، فَإِنَّ صُعُودَ الْمَاءِ إِلَى الْجِبَالِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَا يَكْفِي لِحُدُوثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْعِلَاوَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ التَّارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْهَا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ. فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا تَقَدَّمَ إِنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، وَلَا نَتَّخِذُهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ خِلَافَهُ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَصًّا قَطْعِيًّا عِنْدَنَا.

.الْعِلَاوَةُ الرَّابِعَةُ: فِي غَضَبِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَعِقَابِهِمْ بِبَعْضِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِمُنَاسَبَةِ الْقِصَّةِ:

بَيَّنَّا أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ عليه السلام كَانَ عَذَابًا عَاقَبَ اللهُ بِهِ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَأَنَّ رِوَايَةَ سِفْرِ التَّكْوِينِ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَخْبَارِ الطُّوفَانِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ قَدْ جَاءَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا.
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَاقَبَ غَيْرَ قَوْمِ نُوحٍ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا عَمَّهُمْ وَشَمَلَهُمُ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَشْهَرِهِمْ فِي التَّارِيخِ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (29: 40) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ عِقَابِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ هَذِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي عَمَّهَا الْفَسَادُ وَأَنْذَرَهَا الرُّسُلُ وُقُوعَهُ فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَأَنَّهُ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَيُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (17: 15) وَقَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [28: 58 و59] وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ تَعَالَى لَمْ يُغْرِقْهُمْ كُلَّهُمْ، وَإِنَّمَا أَغْرَقَ مَنْ خَرَجُوا مَعَهُ لِإِعَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الِاسْتِعْبَادِ وَالظُّلْمِ.
وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا دَعْوَتُهُ هُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ.
وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا لَا يُهْلِكُهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهَا الْعَامُّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي يُهْلَكُ بِهَا الْبَشَرُ كُلُّهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا عَمَّهُمُ الْكُفْرُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ».
وَقَدْ ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ- أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَأُمَّةِ الْإِجَابَةِ- خَاصَّةً بِالظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ لَا عَامًّا لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَعُمُّ أَفْرَادَ مَنْ يَقَعُ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (6: 65) وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَاقِعَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِأَشْكَالٍ لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ بَشَرٍ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ وَهِيَ عَذَابُ الطَّيَّارَاتِ الْجَوِّيَّةِ، وَالْأَلْغَامِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْغَوَّاصَاتِ الْبَحْرِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ الْأَقْوَامِ إِلَى شِيَعٍ فِي الْعَدَاوَاتِ فَوْقَ الْمَعْهُودِ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
كَذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِثْلَ مَا عُذِّبَ بِهِ الْأَقْوَامُ الْأَوَّلُونَ الْمُجْرِمُونَ الظَّالِمُونَ، مِنَ الطُّوفَانِ الْخَاصِّ وَخَسْفِ الْأَرْضِ وَحُسْبَانِ النَّارِ مِنَ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ، وَشِدَّةِ الْقَيْظِ الْمُحْرِقِ لِلنَّبَاتِ الْقَاتِلِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِي هَذَيْنِ الْعَامَيْنِ فَكَانَتْ عَلَى أَشُدِّهَا فِي صَيْفِ عَامِنَا هَذَا (1353هـ- 1934م) فِي أَمْرِيكَةَ وَأُورُبَّةَ وَلاسيما إِنْكِلْتِرَةُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَالْفُرْسُ وَالشَّرْقُ الْأَقْصَى، وَخُسِفَتْ بَعْضُ الْأَرْضِ بِالزَّلَازِلِ فِي الْهِنْدِ، وَحَدَثَ فِي مِصْرَ وَسُورِيَّةَ وَالْعِرَاقِ وَشَمَالِ إِفْرِيقِيَّةَ شَيْءٌ مِنَ الْجُوعِ وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَنَقْصِ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَلَا يَزَالُ الْقَيْظُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ.
وَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُجِيرَ مِصْرَ مِنْ طُغْيَانٍ فِي النِّيلِ كَطُغْيَانِ بَعْضِ أَنْهَارِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ أَخِيرًا وَفَرَنْسَةَ قَبْلَهُمَا، عِقَابًا لَنَا بِظُلْمِ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِنَا وَفِسْقِ الْفَاسِقِينَ مِنْ دَهْمَائِنَا، اللهُمَّ قَدْ كَثُرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُكَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَمَنْ يَدْعُوكَ وَحْدَكَ فِي السَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ، اللهُمَّ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، وَأَدِمْ لَنَا هَذَا النِّيلَ رَحْمَةً، وَلَا تَجْعَلْ مِنْهُ عُقُوبَةً لِلْأُمَّةِ.

.اعْتِبَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ وَتَوْبَتُهُمْ رَجَاءَ رَفْعِهَا:

كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ إِذَا وَقَعَ عَذَابٌ مِثْلُ هَذَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ اللهَ تَعَالَى فَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، كَمَا كَانَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يُوصُونَهُمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ وَاسْتِغْفَارَهُ مِنَ الذُّنُوبِ- وَلاسيما الظُّلْمُ وَالْفِسْقُ- مِنْ أَسْبَابِ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَالرِّزْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (11: 3).
ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (52) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي سُورَتِهِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (71: 10- 12) وَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ رِجَالِ الدِّينِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَإِنْكِلْتِرَةَ أَنْ يُذَكِّرُوا النَّاسَ بِغَضَبِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِفِسْقِهِمْ وَظُلْمِهِمْ عِنْدَمَا اشْتَدَّ الْقَيْظُ وَمُنِعَ الْمَطَرُ وَاحْتَرَقَتِ الزُّرُوعُ وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْعَامِّ، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (6: 43 و44) أَيْ: خَائِبُونَ مُتَحَسِّرُونَ أَوْ يَائِسُونَ.
وَقَالَ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ: {وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (8: 32 و33) فَلَمَّا أُخْرِجَ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ حَتَّى أَكَلُوا الْعَلْهَزَ وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ، حَتَّى كَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ هُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ وَاسْتَعْطَفَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطَمْئِنَةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (16: 112 و113) وَمَا جَعَلَ اللهُ هَذَا مَثَلًا إِلَّا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، حَتَّى كَانَتْ أَغْنَى عَوَاصِمِ الْأَرْضِ وَقُرَاهَا كَلَنْدَنَ وَبَارِيسَ ذَاقَتْ أَلَمَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (9: 126).

.الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الِاتِّعَاظِ بِالنَّوَازِلِ:

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَكْثَرَ الظَّالِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَادِّيُّونَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ كَانَ عَامًّا هَلَكَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ نَجَا فِي السَّفِينَةِ، أَوْ خَاصًّا بِقَوْمِ نُوحٍ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ حَدَثَ بِأَسْبَابٍ طَبِيعِيَّةٍ كَمَا حَدَثَ فِي هَذَا الْعَامِ فِي مَوَاضِعَ فِي فَرَنْسَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أُورُبَّةَ وَفِي الْيَابَانِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ فَأَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، وَأَتْلَفَ مِنَ الْمَبَانِي وَالْمَزَارِعِ مَا قُدِّرَتْ قِيمَتُهُ بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطُّوفَانَ الْعَامَّ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْأَرْضِ بَعْدُ، فَإِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ إِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا- عَامًّا كَانَ أَوْ خَاصًّا- لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِتَكْوِينِ الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ أَكْثَرُهَا مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ ثُمَّ صَارَ يَتَقَلَّصُ وَتَتَّسِعُ الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا بِهَذَا الرَّأْيِ، فَفِي كِتَابِ الْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْمُورَ كَانَ مَغْمُورًا بِالْمِيَاهِ بِدَلِيلِ مَا يُوجَدُ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ مِنَ الْأَصْدَافِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ.
وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِيمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ كَقَحْطِ الْمَطَرِ وَانْحِبَاسِهِ، وَجَفَافِ الْمِيَاهِ وَغُئُورِهَا، وَشِدَّةِ صَخْدِ الشَّمْسِ وَرَمْضَائِهَا، وَقَدِ اشْتَدَّ هَذَا فِي أَكْثَرِ بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ وَأَمْرِيكَةَ، فَاحْتَرَقَ جُلُّ زَرْعِهِمُ الصَّيْفِيُّ وَهَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَوَاشِيهِمْ، بَلْ مَاتَ بِهِ أُلُوفٌ، مِنْهُمْ مِئَاتٌ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ نِيُويُورْكَ وَحْدَهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثُغُورِ الْعَالَمِ، فَأَكْثَرُ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَامِ فِي سَخَطِ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ حَرِيقٍ وَغَرِيقٍ جَزَاءً بِمَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ فِي سِنِي الْحَرْبِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ، ثُمَّ بِمَا أَسْرَفُوا بَعْدَهَا فِي الْفُجُورِ وَالشُّرُورِ وَإِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَإِنْفَاقِ مَا زَادَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبٍ شَرٍّ مِنْهَا، وَبِاشْتِدَادِ ظُلْمِهِمْ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمُ الرَّسْمِيَّةِ وَغَيْرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا يَعْتَبِرُ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ فَيَتُوبُوا مِنْ ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهَا عَذَابٌ وَلَا نُذُرٌ مِنَ اللهِ- تَعَالَى-، فَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ فَأَمْرُهُمْ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْعَالَمِ فَلَا يُسْنِدُونَ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَّا مَا يَجْهَلُونَ لَهُ سَبَبًا مِنْ نِظَامِ الطَّبِيعَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ مَشِيئَةٌ وَحِكْمَةٌ غَيْرَ سَبَبِهِ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَتَبَدَّلُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ صَلَاحًا وَفَسَادًا، بَلْ يَعُدُّ الْمَادِّيُّونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِنِظَامِ الْأَسْبَابِ بُرْهَانًا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ، وَعَلَى جَهْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرَقِّي الْعُلُومِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِمْ أَنَّ الْمُسْتَحْوِذَ عَلَى عُقُولِهِمْ هُوَ مَا يُسَمُّونَهُ (نَظَرِيَّةَ الْمِيكَانِيكِيَّةِ) وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ كَآلَةٍ كَبِيرَةٍ تُدَارُ بِقُوَّةٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ فَيَتَحَرَّكُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِحَرَكَةِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ لِلْقُوَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لَهَا كُلِّهَا عِلْمٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَنَقُولُ لَهُمْ: مَنْ أَوْجَدَ الْقُوَّةَ وَمَنْ يُحَرِّكُهَا وَيَحْفَظُ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِيهَا؟!
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْعَالَمِ سَبَبًا، وَإِنَّ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ نَوَامِيسَ وَسُنَنًا، وَإِنَّهَا عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، فَصَحِيحٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمَةُ، وَأَوَّلُهَا آيَاتُ الْقَدَرِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّتِي يَفْهَمُهَا الْجَمَاهِيرُ بِضِدِّ مَعْنَاهَا، وَمِنْهَا الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ سُنَنَ اللهِ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمَصَائِبِ وَالنِّقَمِ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 8: 25 وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} 17: 20 أَيْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ.
وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا مَعَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، أَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَصَائِبِ مَشِيئَةً خَاصَّةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً كَقَوْلِهِ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (30: 41) وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (42: 30) فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي أَسْبَابِ الْمَصَائِبِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَمِمَّا جَاءَ فِي الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {مَثَلَ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (3: 117) الصِّرُّ بِالْكَسْرِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ أَوِ الْحَرُّ الشَّدِيدُ، وَفِي مَعْنَاهُ مِثْلُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ جَنَّاتِهِمْ بِظُلْمِهِمْ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ عِقَابٌ خَفِيٌّ، وَلَهُ فِيهِمْ لُطْفٌ خَفِيٌّ، فَنَسْأَلُهُ اللُّطْفَ بِنَا.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يُنْفِذُهُ بِإِبْطَالِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَلَكِنْ بِالتَّرْجِيحِ أَوْ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَهَا كَمَا قَالَ: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} 20: 40 وَلِلَّهِ دَرُّ صَرِيعِ الْغَوَانِي حَيْثُ قَالَ: وَتَوْفِيقُ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارٍ وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (10: 23). اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)}
القصص في هذه السورة هو قوامها؛ ولكنه لم يجئ فيها مستقلًا، إنما جاء مصداقًا للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها. والتي أجملها السياق في مطلع السورة: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} وقد تضمن مطلع السورة جولات متعددة حول هذه الحقائق. جولات في ملكوت السماوات والأرض، وفي جنبات النفس، وفي ساحة الحشر.. ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الأرض وأطواء التاريخ مع قصص الماضين.. يستعرض حركة العقيدة الإسلامية في مواجهة الجاهلية على مدار القرون.